منذ اللحظة الأولى في هذا الفيلم، يعلن برادلى كوربيت عن حضوره كمخرج خلف هذا العمل أو لنقل كمؤلف بالمعنى الكبير للكلمة. هناك نوع من الإفراط هذه الأيام في وصف فيلم ما بأنه طموح لمجرد أنه يظهر نوعًا من الاختلاف عما هو سائد ولكني لا أجد أي فيلم في السنوات القليلة الماضية يجسد الطموح مثل فيلم كوربيت «The Brutalist».
يدور «الوحشي» حول معماري مجري يهودي نجا من محرقة النازي ويحاول أن يعيد بناء حياته من جديد في أمريكا ما بعد الحرب العالمية الثانية. إنه فيلم عنيد وصارم ومستغلق على نفسه مثل بطله مثلما هو إنجاز بصري هائل، وعمل متعدد الطبقات عبر سيناريو شديد التكثيف والذكاء كتبه كوربيت رفقة مونا فاستفولد.
يمكن قراءة فيلم كوربيت كتعليق صادم على الحلم الأمريكي أو عن التوتر الدائم بين الفن والمال، عن صناعة السينما أو حتى كحكاية مجازية عن صناعة الفيلم نفسه. هناك شيء شخصي جدًا يخص المخرج في هذا الفيلم. إنه فيلم مخلص جدًا لتفاصيل الزمن الذي يسكنه، ولكنه يحمل أصداء الزمن الذي نعيشه في عالم تروما الحروب وأزمات اللاجئين ومحاولات النجاة في عالم يغرق.
الملصق الدعائي للفيلم
في لقطة واحدة ممتدة، يخلق باردلي كوربيت واحدة من أقوى افتتاحيات هذا العام. يستيقظ لازلو/ أدريان برودي داخل ظلام كثيف حيث بالكاد نرى وجهه قبل أن يبدأ في مزاحمة الأجساد التي تتحرك صوب الضوء. مشهد خانق تزيده حركة الكاميرا المتوترة إرباكًا. ينفتح الباب، تدخل الموسيقى والضوء وينبض وجه لازلو بسعادة عارمة قبل أن تتحرك الكاميرا محافظة على ارتباكها وتوترها نحو الأعلى ليطل علينا تمثال الحرية في وضع مقلوب على نحو مشؤوم. يصور كوربيت تمثال سيدة الحرية من عدة زوايا دون أن يظهره أبدًا في وضعه الطبيعي. إنه قلب مقلق لصورة سينمائية صارت مبتذلة من فرط تكرارها.
تدور أحداث هذا التسلسل الافتتاحي على متن سفينة لاجئين وصلت ميناء نيويورك. يصاحب هذا التسلسل الافتتاحي صوت إيرزيبيت زوجة لازلو (فيليستي جونز) والتي لا تزال عالقة في أوروبا مع ابنة أخته عبر خطاب تعبر فيه عن فرحها بنجاته، وأنها ستتبعه إلى أمريكا، لكنها تؤكد أنهم ليسوا أحرارًا بعد، رغم نجاتهم. تذيل خطابها بمقولة لجوته: «ليس هناك أكثر عبودية من أولئك الذين يتوهمون أنهم أحرارًا». بهذه الافتتاحية، يحدد كوربيت نغمة فيلمه ويقدمنا للفكرة المركزية في حكايته، هذا ليس فيلمًا عن أمريكا كخلاص أو حكاية صعود نحو الحلم. إنه فيلم يفكك نوعًا ما الأسطورة التي تربط أمريكا بالحرية والحلم.
Guy Pearce من فيلم «The Brutalist»
تشكل حكاية كوربيت هنا انقلابًا واضحًا على سرديات الحلم الأمريكي. هذه هي التيمة الأساسية للفيلم، حيث يتلاشى هنا الوعد العظيم بالخلاص الذي طالما شكلته أمريكا للناجين واللاجئين كاشفًا عن ظلام وحشى. يواصل كوربيت طرقات ازميله كاشفًا عن جوهر فكرته عبر شخصية أتيلا ابن عم لازلو الذي يستقبله في بنسلفانيا والذي يمثل خواء الحلم الأمريكي، إنه متزوج من حسناء أمريكية وكأنها خارجة من أحد أفلام سينما الخمسينات، تخلى عن اسمه وديانته لمصلحة عمله المتواضع كمالك متجر أثاث. يخبره لازلو لماذا تتصرف دائمًا كرجل أعمال وكأنك تبيع دائمًا شيئًا ما؟ يقيم لازلو في غرفة ملحقة بالمتجر، تبدو أقرب لزنزانة.
إنها بداية متواضعة لهذا المعماري الفذ الذي امتلك قبل الحرب شركته الخاصة لكن كبريائه الخاص يجعله يكتفى بأن يعمل كمصمم أثاث في متجر أتيلا. هنا نشاهد أمريكا حيث ملاجئ الفقراء وطوابير المشردين الباحثين أمام كنيسة عن وجبة طعام لا توفر لهم. يتناقض كل هذا مع الصورة الدعائية التي تقدمها الإعلانات عن بنسلفانيا باعتبارها ولاية رائدة في التنمية الصناعية والحرية.
بينما تنساب أغنية «To Each His Own» لادي هاورد على شريط الصوت تقترب سيارة هاريسون فان بيورين (جاي بيرس) من لازلو المنخرط في عمله في جرف الفحم. يتجدد الأمل، هذه المرة حيث يتجلى فان بورين كراعٍ كريم سيمنح لازلو مفتاح الباب الملكي للحلم. «to each his own And my own is you» هكذا تقول الأغنية الرومانسية التي تبطن الحكاية بطبقة ساخرة لأنه حين تنكشف حقيقة فان بورين تباعًا ستبدو الحكاية كرومانسية مريضة ومنحرفة، كعلاقة مدمرة بين فنان صاحب رؤية يحتاج إلى من يمكّنه من تجسيدها، والمستثمر الذي يبحث عن ضحية مثالية.
كان لازلو قد التقى فان بورين أثناء عمله مع أتيلا، حين طلب هاري لي فان بورين (جو ألوين) تجديد مكتبة والده أثناء غيابه عن المنزل. ينهار المشروع عندما يعود الأب إلى المنزل في حالة من الغضب والهياج من تدمير منزله من قبل أشخاص لم يقابلهم قط. يأتي اللقاء الثاني بينهما بعد أن أدرك فان بورين قيمة عمل لازلو. يأخذه هذا إلى عالمه من متغطرسي الطبقة العليا وتحت جناحه عارضًا مساعدته في إحضار من تبقى من عائلته من أوروبا.
يكلف لازلو ببناء مركز مجتمعي تكريمًا لوالدة فان بورين الراحلة حديثًا. هذه الوظيفة هي اللوحة التي ستستقطب كل شغف الفنان داخله. تصبح شيئًا فشيئًا هوسًا مستهلكًا كلما تعمقت تجربة لازلو في أمريكا. هنا تدخل طبقة أخرى من المعنى للحكاية وهي هذا التوتر الدائم والأبدي بين الفن والمال. يمثل لازلو توث الفنان صاحب الرؤية والتي تبدو في غير زمانها بينما فان بورين هو راعيه الذي يمتلك حساباته الخاصة ونواياه المظلمة.
هذا الدور الذي يلعبه فان بورين ويشير إليه مرارًا هو شيء يغذي فخره بنفسه ويغطي إحساسًا عميقًا بالنقص لديه تجاه أصحاب المواهب. «إنه يبحث دائمًا عن الإطراء» كما يقول ابنه. يرى فان بورين لازلو في أعماقه كشيء آخر يستحق امتلاكه مثل ذلك النبيذ الفاخر الذي ملأ به قبوه بما يكفي لثلاثة عقود قادمة. تخبر لازلو زوجته في لحظة ما أنها لا تثق في فان بورين وأن الأمر من جانبه مثل ترميم مطبخ، ومع ذلك يستمر لازلو في العمل لديه لأنه الوسيلة الوحيدة لتحقيق رؤيته.
يقسم كوربيت فيلمه إلى فصلين متناقضين مع مقدمة وخاتمة. في الفصل الأول، نرى الوعد الذي تقدمه أمريكا، الأمل الذي يحمله هاريسون للازلو والتحقيق المحتمل لهذا الوعد، وفي الفصل الثاني، نرى حقيقة هذا الوعد، حيث أمريكا تستغل وتسيئ إلى أولئك الذين تسمح لهم باللجوء إليها. نشاهد الوجه المثالي للحلم الأمريكي يغتصب على نحو حرفي ضحيته ليخبره أنه ليس أكثر من عاهرة تبيع نفسها.
التصميم الداخلي للمكتبة والمجمع الذي يستلهم فكرة الزنازين
في كتابه «الإنسان والبحث عن المعنى» لفيكتور فرانكل، الذي خاض تجربة شبيهة بتجربة لازلو في معسكرات النازي، يخبرنا: «أن الإنسان الذي ظل لعدة سنوات يعتقد أنه إن وصل إلى الحد المطلق من المعاناة يجد أن المعاناة أمرًا لا حدود له». تستمر معاناة لازلو في أمريكا بأشكال أخرى. تعمق المعاناة الجديدة جروحه الحية. يجد لازلو نفسه هنا فريسة لنوع من الإحباط الوجودي وغياب المعنى، ومن هنا يتجلى معنى هوسه بإتمام عمله وكل التضحيات التي تكبدها من أجله.
يجسد لازلو معنى التروما عبر الاستلاب والاغتراب عن نفسه. تخبر زوجته ابنة أخته جوفيا في خطاب لها أنها تشعر أن زوجها في مكان ما داخل النسخة الحالية منه، ولكنها لا تجد سبيلًا إليه. تبدو عنته الجنسية ويتجلى ألمه الذي يسكنه من خلال الإدمان مثل رتوش بارزة لأزمته الداخلية وتعبيرًا عن عجزه عن مواصلة الحياة. يمثل لازلو كتلة من الجروح الداخلية محصورة في إطار دفاعي ضعيف لرجل ممزق بالكاد يستطيع التظاهر بالتماسك، متأرجحًا دائمًا على حافة الانهيار.
أداء برودي هنا غير عادي، مليئ بالغضب الشديد، والحزن الملموس، و المكبوت. يتكرر هذا السؤال موجهًا لتوث أكثر من مرة في الفيلم إزاء مواقف تعرض فيها لظلم واضح: «لماذا لم تدافع عن نفسك؟»، وبالرغم من هذه السلبية التي يغذيها إحساسه العميق بالاستلاب فإن الشيء الوحيد الذي دافع عنه هو فنه الذي رأى فيه المعنى الوحيد لتجربة حياته المروعة.
يخلق توث عبر تصميمه نوعًا من فخ فني، حصان طروادة يمرر عبره مأساته. تظل رؤيته غامضة حتى على أقرب الناس إليه؛ تراه زوجته يبتعد عنها وعن كل شيء مفضلًا الهيام داخل الأروقة الداخلية لتصميمه المتاهي.
ما نكتشفه بأثر رجعي في مشهد النهاية في بينالي البندقية الأول لفن العمارة والذي يحتفي بفن توث، هو أنه قد أعاد تصميم الفراغ الداخلي للبناء على نحو مشابه لزنزانات معسكر الاعتقال (بوخنفالد) كما ضمن الزنزانة التي كانت في معسكر آخر داخل نفس البناء، فاصلًا بين زنزانتيهما بعدد لا نهائي من الممرات السرية. تأتي البصمة الأهم لتوث عبر الارتفاعات الدرامية الشاهقة لهذه الزنازين التي تلهم التوق إلى الحرية.
مشهد آخر من فيلم «The Brutalist»
لم يأتي فيلم كوربيت على ذكر المعمار الوحشي في متنه، إلا أنه يفكك عبر سرده وجمالياته فلسفتها وجوهرها على نحو ما. يتجلى فيلم «الوحشي» مثل أحد تصميمات لازلو، التي توصف خلال الفيلم بأنها جوهر صلب بلا أجزاء زائدة، وعلى نفس الشاكلة لا توجد لحظة زائدة في فيلم كوربيت رغم زمنه الملحمي. يقدم كوربيت هنا أيضًا مستلهمًا فلسفة هذا النوع من العمارة الواقع كما هو دون زخارف.
تأتي واحدة من أجمل اللحظات في الفيلم والتي تحقق نوعًا من العدالة الشعرية لفن لازلو، حين يختفي هاريسون فان بورين ويتم البحث عنه عبر ممتلكاته وصولًا للبناء الذي صممه لازلو. لا يعثر عليه وكأنه قد تبخر أو ضاع تمامًا داخل المتاهة التي خلفها لازلو. قرب نهاية تتابع البحث المحموم الذي يتبعه كوربيت بكاميراه، يترك فريق البحث في الظلام ويعود ليظهر المذبح وقد انعكس عليه ضوء الفجر على شكل صليب متأملًا جمال وسمو هذا التصميم الذي نراه متحققًا للمرة الأولى بعد أن سمعنا لازلو يتحدث عنه مرارًا عبر الفيلم. وحده الفن ما يبقى بينما هؤلاء المتغطرسين يأخذهم النسيان.
يجسد هذا الهيكل الوحشي معاناة لازلو بجمالياته الصعبة ورؤيته التي تتجاوز الزمن. يتوحد كوربيت هنا بلا شك مع عذابات لازلو كفنان. إن حكاية فيلمه هي حكاية فنان يحاول أن يقدم فنه دون تنازل، وهي قصة شخصية للغاية بالنسبة له لأنه فنان يحاول صنع الأفلام، لا يريد أحد أن يدون هنا رحلة إحباطه الخاصة مع صناعة الأفلام.
يكشف كوربيت البالغ من العمر 36 عامًا عن نفسه هنا باعتباره كلاسيكيًا أكثر من كونه وحشي. يُروى الفيلم بأسلوب خطي وتمرس معلم كبير. يحقق هنا جمالية فريدة تضم عددًا من المتناقضات معًا؛ يجمع فيلمه بين المينيمالية والإفراط، بين الوضوح والغموض، وبين ما هو ملحمي وحميمي.
في لحظة من لحظات السينما الخالصة، يسكب صديق لازلو الماء على قطعة من الرخام التي يرغب في أن تكون مذبحًا في قلب الكنيسة التي سيتضمنها تصميمه، فيكشف الماء المتدفق عن التعقيدات الكامنة لجمالها، لتملأ اللوحة الرخامية الشاشة. أعتقد أن هذا الجمال الصخري يشبه الجمال الذي يحققه لازلو بفيلمه.